top of page

قصة قصيرة: في ليلة ظلماء

أبدع الأحياء في وصف الموت. قلت لنفسي وأنا أُهلل في داخلي فرحاً، منصدماً لأن نفسي مطمئنة، والآن هي ترجع إلى ربها راضية مرضية. شعرت بابتسامتي تتمدد وأنا أحمد الله لأن سكرات موتي لا تؤلمني. كبرت ابتسامتي أكثر وأنا أفكر فيما سيقال عني بعد أن يعثر على جثتي، مبتسمة.

بعكس عضلات وجهي وشفتيّ، أطرافي كانت لا تتحرك ـــــــ لكني ما زلت أسمعُ نبضات قلبي الذي يضخ الدم ببطء في جسدي المدد على الأرض، واشعر بجفنيَّ يحاربان تلك السكرة الطفيفة، وعيني تحاول استراق النظر إلى آخر مشهد لها أن تراه في هذه الدنيا. منذهل أنا من نفسي، لم تتساءل ما هو المنظر الذي ستؤخذ عليه روحي. لم ما زالت تفكر وهي على مشارف الرحيل؟ ما أرآه الآن لا يشبه ما سمعته عن الموت، اين الشهيق؟ أين التفاف الساق بالساق؟ أين ملك الموت؟

قلت لنفسي :هذه الميتة مريحة، إنها لا تشبه الحياة، فرد صوت أبي العلاء المعرّي في ذهني مؤكداً “ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها، والعيش مثل السّهاد”

ظننت أنني ميت، وانتظرت لروحي أن تخرج إلى أن وجدني اليساندرو. الذي في البداية حسبته ملك الموت، ثم أدركت أنه إنسان حين صرخ “هل هناك من بقي على قيد الحياة؟” باللغة الإنجليزية. قلت لنفسي، إن كانت الملائكةُ ستتحدث بإحدى لغات البشر، لابد أنها ستتكلم لغتنا العربية. تيقنت أن اليساندرو بشري حين عرفت سبب مشيته الغريبة، كان اليساندرو يعرج بحذر وهو يجر ساقه المجروحة خلفه، محاولاً تفادي شتات الطائرة على الأرض وزجاج طائرتنا المتكسر الذي مهما عكس ضوء القمر، يخفق في كسر حدة هذه الليلة. كانت ليلة ظلماء نتنة، نعم نتنة، تنبعث منها رائحة فُتات الفولاذ والدم والموت. من شدة ظلامها لم يرَ اليساندرو قدمي فداسها، حينها صرخت وركلته بقوة حتى كاد يسقط، وسرعان ما تبدلت علامات الفزع التي علت وجه اليساندرو بتعابير الفرح، ابتهج الرجل لأنه وجد حياً آخر!

لوهلة خطر سؤال في بالي: من يحق له الحزن أكثر؟ الموشك على الموت أم الذي ينهض ويكتشفُ انه وحيدٌ تماماً؟ أم أن كلينا له أن يحزن بالقدر نفسه؟ فالوحدة تشبه الموت، نخافها، نتجنبها، نحاول حماية أنفسنا بكل السبل منها، ننعت من يظن انه يفكر فيها بالجنون— بالرغم من أننا على يقين أن لحظاتهما آتيه لا محالة.

“وحيد” ، ترددت الكلمة في رأسي بعدما ساعدني اليساندرو على النهوض و حاول التحدث إلي. كان اليساندرو يكلمني بالإنجليزية، التي بالرغم من أنني أجيدها، ظلت كلمة “وحيد” تظهر لثواني و تختفي في ذهني. لم أكن أعرف اليساندرو في ذلك اليوم، لكني حاولت النهوض ببطئ محارباً الألم حتى أسلم عليه. متحدياً نفسي التي كانت تباغتني قائلة “أجنبي، لمَ أسلم عليه؟ هل يعرف هذا الأشقر ما هو السلامُ اصلاً؟” و بالرغم من ذلك نهضت، و ألقيت عليه التحية بالإنجليزية.

رد علي اليساندرو التحية فعرفت من لكنته أنه إيطالي، لم أكن أعلم ماذا أقول له، ماذا يقول الناس لبعضهم البعض في مثل هذه الحالات؟ مبروك، إنك على قيد الحياة؟ أم يا للأسى لقد سقطت طائرتنا؟ نظرت إلى وجه اليساندرو و سألته

ما اسمك؟-

اليساندرو-

أأنت إيطالي؟-

نعم! كيف عرفت؟-

من لهجتك ومن اسمك أيضاً، أنا اسمي عيسى-

فرد علي بصوت مرتبك

سعدت بلقائك يا عيسى-

لاحظتُ أن شفتا اليساندرو داكنةٌ، فافترضت أنه من عائلة تعمل في تصنيع الخمور، أليس هذا ما اشتهر به الإيطاليون؟

و قبل أن ننهي محادثتنا، سمعنا صوت أحد ينعي و يصرخ من مسافة قصيرة. فتتبعنا الصوت حتى وصلنا عند رجل يبكي على جثث أمامه، امرأة وطفلها في حضنها، متلاصقين حتى الإلتحام، ايديهما متداخلتان، جمجماتهما مهشمتان. والرجل أمامهما ينوح أكثر مع كل خطوة نأخذها باتجاهه.

(هل أنت بخير يا سيد؟ (باللغة الإنجليزية-

لا رد

سيدي، هل تريد المساعدة؟ هل أنت بخير؟-

.لا رد، فقط المزيد من النحيب ، كأن هذه الليلة الدامية ينقصها لحن كئيب لتكتمل

وقفنا أنا واليساندرو على بُعد حتى خمد النواح وقام الرجل من مكانه، متجهاً نحو شتات الطائرة القريب منّا و منه. عرفتُ جنسية الرجل في الثواني التي أقترب منّا فيها، شعر أسود، بشرة شبه داكنة، نقطة حمراء متمركزة في جبهته تشبه في حُمرتِها نقاطَ الدم المبعثرةِ على عمامته البرتقالية. “إنه هندي بوذي” قلت لأليساندرو، الذي لم يجب علي. فقد كان اليساندرو مشغولا في متابعة حركات الهندي، الذي مر بجانبنا متجاهلاً وجودنا بشكل تام، و تخطانا متوجهاً نحو حُطام جناح الطائرة القريب، إلى أن وصل إلى بقعة مليئة بالشتات و انحنى ليتحسس ما في الأرض من حطام.

اعتادت عيناي بسرعة على ضوء القمر، فقد رأيت ملامح وجه الهندي حين مر بقربنا والآن أراه يمسح شيئاً سائلاً من يديه ثم يركض نحو عائلته المتوفاة. توهج ضوء القمر كأنهُ يريدني أن أشهد على ما سيحدث. فمددت بصري وأسرعت من خطاي لكي أقترب من مكانهِ أكثر. حينها، رأيته يُقبل رأس الطفل الميت مرة وخد زوجته عدة مرات، يفك ببطء وحنان إياديهما المتشابكة، وعاد الرجل يبكي، والآن صَغيرهُ بين يديه. مشى محتضناً الطفل غير آبه بأن الجثةَ الضئيلة تُلطخُ قميصه بالدماء، كأنها تأبى الرحيل قبل أن تهديه تذكاراً من العالم الذي غادرت إليه “يا لجمال و تعاسة الحب” قلت لنفسي. ثم تبعته أحداقي إلى أن وصل إلى تلك البقعة القريبة من جناح الطائرة.

رأيته يضع الطفل برقة على الأرض، ثم يعود ويعيد نفس الخطوات مع جثة الأم، بضعف الجهد الجسدي و النفسي. قرّب الجثتين بعضهما من بعض، وحام حولهما في بقعتهما الجديدة، ثم حاول غسلهما بالسائل الذي كان يُصب ببطئ حولهما من جناح الطائرة. دقائقٌ مرت، وانحنى الرجل والتقط حجرين وحك الواحد بالآخر بسرعة ولعدة مرات، فانطلقت شرارة واندلعت النيران في ثياب الجثتين وفي شعرهما. قارئي، إن كنت تظن أن مشاهدة الدم أو الجثث أو النار مخيفة، فتخيل هذا المنظر حيث تجتمع هذه المروعات في مشهد واحد.

رأيت انعكاس النار على دموع الهندي، بعدها اضطر الهندي أن يفر هارباً، مبتعداً عن النار التي بدأت تكبر وتأكل كل ما يحيط الجثتين. لم أرَ إلى أين ذهب، فقد حوّلتُ انتباهي إلى الجناح الذي بدأت النيران تتسابق عليه. كان الجناح المنفصل عن الطائرة يحترق وينير لنا المكان، وبدا ما حولي كالجزيرة في وسط محيط لا نهاية له. أبعدت عينيّ عن الجناح حين تذكرت اليساندرو، وبدأت أبحث بهما عنه حتى وجدته يحدق في أكوام الجثث التي تحيط بنا، جثثٌ وجوهها تُرى الآن على ضوء الجناح المشتعل منيراً الجزيرة، ومستبقا ًالصباح. تمعّنت في تلك الوجوه ايضاً، فشعرت كأنني رأيتُ كلَ درجات الألم التي عرفها البشر. ورحتُ أفكر كيف لم يخطر في بالي قط، أن الجثث تتحجر وجوهها على معالم الخوف والأسى وألم مفارقة الروح للجسد. وتذكرت كيف بدأت ليلتي، كيف ظننت أنني موشكٌ على لقاء أم اللُهيم، وبدأت أتساءل أن كُنت حقاً على قيد الحياة، وأُشك أن هذه الجزيرة دركةٌ من دركات النار، فها هي ساعة واحدة شهدت فيها من الأهوال مالم أشهد سُدسها طيلة عمري. وحين كنت غارقاً في حيرتي، فإذا بشبح شخصٍ يخطو إلينا من وسط الجثث. هذا الحيُ كان فظَ الملامح، أجعدَ الشعر، شديد السمرة، عريض الفك والبنية. تقدم الرجل الينا ووقف صامتاً يشاهد النيران على الجناح من بعد. وقبل أن يتلفظ بأي .كلمة، هوى الأفريقي ساجداً للنار. سألت الله النجاة، أنا هنا، مع صانع النبيذ وحارق الأهل ومُقدس النار

إين المفر؟ البحر من ورائي وهؤلاء من أمامي! هان علي الموت في تلك اللحظة، “الفزع الفزع” قلت لنفسي وشرِعت أُفكر في طرق الهرب والبحث عن أماكن الاختباء. قطع حبل تفكيري الأفريقي، حين اقترب مني ووضع كفه على كتفي وقال:ح

أسمي أبيبي-

أخذت بضع رقائق للرد-

أأنا .. أنا عيــ.. عيس أ.-.

أأنت بخير؟ تبدو شاحباً وموشكاً على الاختناق.-

أدركتُ حينها أن عابد النار يتحدث الإنجليزية ايضاً، مثلي ومثل اليساندرو. لكنّي لم أستطع الرد عليه، وبقيت ساكناً أحبس الدمع والخوف، أحاول نسيان صورة رأيتها في التلفاز عن قبيلة أفريقية تطبخ لحوم الضاريات والبشر. بالطبع لم يكن أبيبي أول شخص ألتقي به من القارة السمراء، فقد صادفت العديد من سُكانها في مقر عملي والمطارات والأسواق، لكني لم أرى احداً منهم يسجد للنار من قبل. فقلت، إن أخافني بدينه، سأخيفه بديني. فتأهبتُ للصلاة، ورفعت ذراعيَّ عالياً جداً لأُكَبِرَ تكبيرة إحرام مبالغٍ فيها، وأقمتُ بأعلى صوتٍ تمكنت حنجرتي الخائفةُ من إطلاقه. وقف أبيبي على جنب مستغرباً من ردة فعلي المفاجئة، ثم شرعت بالصلاة، وحين كنتُ في نصف صلاتيَ المبتذلة، لاحظتُ أن تزييفي و علو صوتي المبالغ فيه يشوهان جمال الترتيل الذي أعتدت أن أسمعه حين أصلي وحدي جهراً. وفي الركعة الثانية، لم تطاوعني ذاتي على استخدام الصلاة للترهيب، وبدأت أتلو السور بصوتي الطبيعي علّ الخشوعَ يقهر التخويف أو يُسكن الأجواء.

وبعدما أنهيت الصلاة، وجدت أبيبي واليساندرو يتحدثان، فاحمرت وجنتاي لأني أدركت حينها أني توهمت أنني محط الأنظار، وأن الآخرين توقفوا ليروني أُرهبهم أو أتقرب إليهم بصلاتي. اقتربت من الرجلين، وبدا أبيبي مسالماً وهو يستمع إلى اليساندرو، فقلت بصوت مبحوح:

أهلاً-

فرد أبيبي:

-أهلاً

وأكمل أبيبي استماعه إلى اليساندرو، الذي كان يتحدث عن خوفه من حرارة النهار الآتي والعطش والجوع.

قال أبيبي: يجب عليك الخوف أولاً من الأمراض التي يُمكن أن تنتقل إلينا من الدماء المبعثرة هنا، أنا طبيب، وأعرف أن هذه الأمور لا يجب الاستهانة بها. يجب علينا الابتعاد فوراً من مكان سقوط الطائرة.

حينها حاربت ترددي وقلت: ماذا لو أتى فريق إنقاذ؟ لن يجدونا هنا، وقد لا نعلم بقدومهم إن ابتعدنا.

اليساندرو مشيراً إلى السماء: مستحيل ألا نلاحظ وجود أي طائرة تمر في هذه السماء الخالية.

-ماذا لو كانت سفينة؟ إننا في جزيرة

أبيبي: هل يمكنا أن نتناقش هذا في مكان آخر؟

احتد النقاش، وفي نهايته قررنا شد الرحال إلى أقرب مكان نجد فيه ظلاً وماءً، ووعدوني بألا نبتعد كثيراً، وأن نبيتَ في مكان قريب يمكنني العودة منه إلى هنا في حالِ رغبتُ أن أتفقد وجود فريق الإنقاذ. فوافقت وقلت لهم ضارباً صدري “اعتمدوا علي، فأنا ابنُ العرب، آبائي كانوا بدو رحالة، يجوبون الصحارى، يروضون الجوارح، ولهم عيون ترى الواحات من على بُعد مسير ثلاثة أيام”

فتقدمتهم في المسيرة و ياليتني لم أفعل، فمع كل خطوة كنت أشعر بالوزر يثقل— مسؤوليتهم، جوعهم و عطشهم. وبعد عشر دقائق بدأت أبطئ من سرعتي حتى أجاورهم، وحين أصبحنا نسير في خط واحد جنباً إلى جنب، سألتهم أي الطرق نسلك؟ فعلى اليمين تلة عظيمة لا نرى ما خلفها وعلى اليسار المزيد من الفراغ. واتفقنا على صعود التلة آملين أن نجد مبتغانا خلفها، و حين أقتربنا من التلة رأينا الهندي جالسا على صخرة كبيرة في بدايتها. رآنا الهندي وابتهج، وسألت نفسي كيف له أن يبتسم بعد جريمته الشنيعة؟ وتبعت على مضض أبيبي واليساندرو وهم يمشون في اتجاهه ليدعواه لينضم إلينا. ازدادت فرحة الهندي بدعوتهم التي لولا لغة الإشارة لما فهمها، ثم عرّف بنفسه متحدثاً إلي:

إسمي ياكشت-

كلمني بالعربية-!

، اسمي عيسى عشر سنين وأنا أعمل في البلد التي أقلعنا منها، عرفت أنك عربي لأن شكلك مألوف فأنت تشبه أبناء بلدك ساعدني أنا -

لا افهم مايقولان

حينها بدا الهندي مسالماً، كأن وقع اللغة في نفسي أنساني ما حدث قبل ساعتين، فابتسمت له وقلت له أن الآخرين يريدونه أن يمشي معنا.

لم يكن تسلق التلة هيناً، فقد كان وعراً، احتجنا فيه أن نساعد بعضنا البعض لتسلق صخورها و سحب أجسامنا عليها، كان أبيبي أكثرنا لياقة و قوة، فكان يقفز بخفه و يمد ذراع العون لنا، فنتشبث فيها واحداً تلو الآخر. وحين جلسنا لنأخذ استراحة قبل طلوع الفجر، سألت

:أبيبي من إين له هذه القوة، فضحك أبيبي وقال

عادة ما نتجمع أنا ورجال حيّنا فوق جبل قريب منّا. نصعد إلى قمته، حاملين طبولنا على ظهورنا، نجلس على أرض الجبل ونشب- النار ونغني حولها ونرقص.

لما؟-

هذه عاداتنا-

.وقاومت حينها أن أفاتح أبيبي في موضوع السجود للنار

أأ — وكيف تجد الوقت لفعل ذلك وأنت طبيب؟ الست مشغولاً معظم الوقت؟-

أكون مجهداً ومشغولاً، لكنني أقاوم التعب لأقضي الوقت مع رجال الحي، فالمتعة تنسيك التعب. والرقص الشعبي-

.و الغناء يقرباننا و يكسران الحواجز بيننا، هااه، اشتقت لرؤية الرجال

كلامه أغرقني في مقارنة معقدة بين ثقافتينا، نحن لا نغني ولا نرقص. ماذا نفعل؟ نتجمع في المجالس ونتحدث؟

فقلت بعد تفكيرٍ عميق: هل تصدق يا أبيبي، أنا وأصدقائي نقوم بأشياء مشابهه-

-حقاً؟ لم أكن أعلم أن هناك جبال في-

قاطعته: لالا، نحن لا نتسلق الجبال. لكننا نذهب إلى الصحراء، نوقد النار ونلقي القصائد ونتبادل قصص الجن على ضوئها، ونسمر ونحن نتحدث ونحضر القهوة. ليتك جربت قهوة صديقي حمد، تلك التي يحضرها على الحطب، لا أعلم ماذا يضع فيها، لكنها تزداد لذة

.مع كل رشفة

قاطعني اليساندرو قائلاً: إنه التحميص، أبي يقول إن كُنت تريد قهوةً ممتازة فحمّصها حتى تسوّد زيوتها، وانتقي أجود حبوب البن-

فرددت عليه: كيف تختار حبوب البن؟

لا أُريد أن أكون متحيزاً، لكن حبوب البن الإيطالية قد تكون الألذ —

...فرد أبيبي وهو مغمض عينيه كأن خياله يذكره بطعم شيئاً ما: لابد أنك لم تجرب القهوة الأوغندية-

فضحكنا جميعاً، كلٌ يتذكر قهوة موطنه، حينها تذكرت أن ياكشت لا يفهم الإنجليزية، وأنه جالسٌ بيننا لا يستوعب ما نقول

فالتفتت إليه، و رأيته يراقب النجوم

هل تحب النجوم؟-

أنا أبحث عن النجمة السادسة-

ماهي النجمة السادسة؟-

:فرد بغصة

النجمة التي تصعد الأرواح إليها، بعد أن تتحول الأجساد إلى رماد، ربما .. ربما .. ربما لم تحترق أجساد زوجتي و أبني كلياً، قد يكونان ما يزالان محبوسين في أجسامهما. إن كانت زوجتي في النجمة السادسة لابد أنها ستبرق لي أو ترسل لي إشارة، ساعدني

على إيجاد النجمة يا عيسى

وكيف أعرف إين هي النجمة السادسة؟-

تكون سادس نجمة بعد خمس نجوم متقاربة-

نظرت إلى وجه ياكشت الموجه إلى السماء، ورأيت عيناه تبرقان كالنجوم التي انشغلتا بتتبعها، فاكتفيت بالابتسام.

إن قال لي أحد هذا الكلام قبل اليوم، لضحكت وقلت له ما هذه الترهات التي تهذي بها. لابد أن أرواح أهلك تحترق الآن في جنهم كما احترقت أجسادهم. لكن بعد الساعات التي مضت، أدركت لأول مرة كيف أن الإيمان عدسة ننظر من خلالها ونقيس بها منطقية أفعالنا. كيف أن حرق جثة قريب بالنسبة لمبادئي هي إجرام، وبالنسبة لياكشت هي احترام. كيف أن الراقص سيسخر منه أصحابي، وسيتقرب اليه آل أبيبي، وكيف يمكن لقهوة أن تألف بيننا جميعاً. واستوعبت حينها أنه يمكنني أن أتعلم من أبيبي خطوات التسلق و من اليساندرو فن اختيار القهوة و من ياكشت استشعار الفقيد، دون أن أؤمن بمعتقداتهم. وأنني أستطيع أن أعلمهم مما أوتيت من ثقافة. وأدركت اخيراً أن الأديان والمبادئ لا تفرّق، بل الإنسان يفعل، حين يغتر ويكابر بها.

فقلت لأبيبي: غن لنا إحدى أغانيك الشعبية

.فضحك لي أبيبي وبدأ الغناء بكلام مبهمٍ ولحن جميل

وسمعناه يدندن لدقائق إلى أن اشرقت الشمس. فقمت أنا من مكاني، تفقدت أن ملابسي لا دم فيها، تيممت وبدأت أصلي صلاة الفجر، وفي الركعة الأولى ابتسمت وأنا اقرأ الآيات حين قلت “لكم دينكم ولي دين”. ودعوت في ختام صلاتي أن يلهمني الله وأن يهديني أنا والجميع إلى الصواب.

ثم أكملنا التسلق و نحن عطشى جياع، يدعو كل واحدٍ منا بلغته ربه أن يكون وراء التلة ما نتمنى . وأُجيبت الدعوات، وشُقت الابتسامات، وعلت الضحكات التي لا لهجة لها، حين رأينا واحة واسعة كثيفة الشجر أسفل الجهة الأخرى من التلة. وتسابقنا نحو الواحة نزولاً. وكان النزول سهلاً ونحن محررين من الشك والخوف من الهلاك

وصلنا إلى الواحة التي تكاد أن تكون غابة في كثافة أشجارها. وتضاعفت فرحتنا حين وجدنا فيها مختلف الأشجار و الثمار. سألت نفسي: “أيكافؤني الله بجنةٍ بعد جحيم الجهة الأخرى؟” أكلنا من خيرات الواحة، وارتوينا من ماء ثمارها، وافترشنا الأرض متخذين ظل الشجر حجاباً من الشمس، ثم غططنا جميعاً في نوم عميق كأن عناء الليل أهّلنا لتحدي النهار.

استيقظت حين سمعت اصواتاً غريبة صادرة من بين الشجر، وحين فتحت عيناي بخوف رأيت اليساندرو يسنّ أحجار كبيرة وحادة بدقها على بعضها.

!ماخطبك-

سألت اليساندرو الذي لم يُجب علي واكتفى بالإماء إلى مصدر الاصوات

هل تتأهب للصيد؟-

لا، أظن أنه ضجيج حيوانات مفترسة-

كيف ستصل الحيوانات إلى هذه الجزيرة النائية؟-

لا أعلم، لكنني أشعر أننا في خطر، الضجيج عالٍ، إن كانت حيوانات فلابد أنها كبيرة-.

وتذكرت حينها أنني لا أعلم في أي بقاع الأرض نحن الآن، وأنني لم أعتد خوف الحيوانات الكبيرة من حيثُ أتيت، ربما نحن حقاً في خطر، فسألت:

ماذا يجب علينا أن نفعل؟-

لا أعلم-

فأيقظت الآخرين، وبدأنا نتأهب لأسوأ الاحتمالات بالتشاور عمّا يمكننا فعله. بعد أن أفاق الجميع قال أبيبي:

إن كانوا بشراً سنحاول التواصل معهم، هيا بنا نقترب منهم-

:وقال لي ياكشت وترجمت للبقية

لنقترب، إن كانوا حيوانات سنصطادها للحمها-

:فأجاب اليساندرو

-ربما كانوا حيوانات كبيرة، يفضل أن نتسلل إلى التلة و نصعدها-

فرد أبيبي: لكنهم بشر

اليساندرو: هذا غير منطقي، ما يأتي بالبشر إلى هنا؟

أبيبي: أظن أنني سمعت أحدهم يصرخ متحدثاً لغة لا أفهمها

ووقفت أنا أشاهد الباقين يقترحون ويكملون التحدث بانسجام، و كأن الخطر قرّبنا بعضنا من بعض. فذهلت من أمر البشر، و قلت لنفسي: عجباً لابن آدم، ها نحن ذا أصبحنا حزباً واحداً متآلفا حين ظهر "غريب" جديد علينا! أصبحنا كياناً واحداً يحذر من ذلك الذي استحدثناه!

وقبل أن ابدي رأيي، سمعنا ضجيجاً عالياً وقادماً من السماء. فرفعنا رؤوسنا في الوقت ذاته، ورأينا طائرة مروحية جعلتنا نصرخ ونقفر للفت أنظار من عليها، لكن الطائرة لم تتوقف. وفي اللحظة التي أوشكنا فيها على فقد الأمل، حطّت الطائرة المروحية في واحتنا، فنظرنا بعضنا إلى بعض لثوانٍ وبدأنا نركض باتجاهها لدقائق لم نشعر بمرورها. وحين اقتربنا معاً من الطائرة، عرفنا ما كان سبب الضجيج الذي خِفْنا منه. فقد كان أبيبي محقاً حين قال إنه سمع لغة لا يفهمها، لأن خلف الشجر كان فريق الإنقاذ يتأهب للتخييم في الواحة! والصراخ الذي سمعه أبيبي ما كان غير صوت رئيسهم وهو يصدر الأوامر. وحين وصلنا عند فريق الإنقاذ، قصصنا عليهم ما حدث، فاستمعوا إلينا وزملونا بمُلاءات ظنّاً منهم أنها كفيلة بتخفيف صدماتنا. وحين أتت إحدى الطبيبات لتتفقد إنني سليم من الكسور والجروح، عرفت أنها عربية، ودُهِشت لأني لم ألاحظ أن أغلب من في الفريق عرب! كيف لم الحظ شيئاً بديهياً كهذا كما أفعل عادةً؟ وقبل أن تتفوه الطبيبة بكلمة سألتها: من إين أنتم؟ وأين نحن؟ ولم أستطع التوقف عن الضحك بعدما أجابت وأخبرتني أننا مازلنا داخل حدود بلادي.


تدوينات سابقة
bottom of page